وكأن "الأرض والسماء" لم تعد كافية للصراعات والتوترات الدائرة، فبلغ الأمر حتى الفضاء، والقمر هذه المرة هو ساحة الوغى الجديدة، بعد أن أصبح الهدف الأحدث للتنافس الدولي، وأضحى السباق نحو هذا "الجرم السماوي" محتدماً، بأهداف تتراوح ما بين الاستكشاف إلى استخراج الموارد ومآرب أخرى.
وأعادت الدول الكبرى مؤخراً تشغيل "مشاريع القمر" في بيئة تنافسية محتدمة لم يشهدها التاريخ من قبل، يشعلها وقود "العوائد الاقتصادية المذهلة" التي يصبو إليها المتبارين ضمن هذه المنافسة.

سؤال معقد
حين نخوض في هذا الملف يواجهنا سؤالاً معقداً مفاده «في نهاية الأمر، من سيستطيع إحكام قبضته على القمر، أم أن هذا الأمر سيبقى سجالاً؟».

القمر لا يمكن أن يكون ملكاً لأية دولة، بل هو وكل الفضاء الخارجي، مخصص للبشرية جمعاء

والإجابة على هذا السؤال معقدة، ويزيدها تعقيّداً اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1967، التي تُقر أن "القمر لا يمكن أن يكون ملكاً لأية دولة"، بل هو وكل الفضاء الخارجي، مخصص للبشرية جمعاء.

ومع تسابق الدول والشركات لترك بصمتها على القمر، نرى تحديات جديدة تظهر في الأفق، من بينها التنافس على الموارد الطبيعية وحتى الحاجة إلى تنظيم القانون الدولي في الفضاء.

والتحدي الأكبر الذي يواجهنا الآن، هو كيفية التعاون والتوازن بين طموحات الاستكشاف الفضائي وضمان استفادة كل البشر.
عالم يحذر: علاقتنا بالقمر ستتغير جذريًا قريبًا جدًا

في عصر تجدد سياسات القوى العظمى، يمكن أن يؤدي هذا السباق الفضائي الجديد إلى تصدير التوترات على الأرض إلى سطح القمر.
ويحذر عالم الجيولوجيا في جامعة كانساس الأمريكية جاستن هولكومب من أن «علاقتنا بالقمر ستتغير جذريًا قريبًا جدًا». ويؤكد إن سرعة استكشاف الفضاء الآن «تتجاوز قوانيننا».
ويتنافس في هذا السباق الجديد 5 دول هي: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين والهند واليابان.

أخذت الصين أحدث خطوة على درب أن تصبح قوة رائدة في مجال الفضاء خلال العقود المقبلة. حيث بدأ ثلاثة من رواد الفضاء الصينيين مهمة تستغرق 6 أشهر للعمل في محطة الفضاء الجديدة لبكين.

ووضعت الصين، خلال العام الماضي، في المدار أول وحدة من محطتها الفضائية تيانقونغ أو "قصر السماء"، وتعتزم إضافة المزيد من الوحدات، مثل مختبر العلوم "مينغشيان"، بحلول نهاية العام.

وسوف تطلق الصين في العام المقبل تلسكوباً فضائياً أطلقت عليه اسم "شونشيان"، سيطير على مقربة من محطة الفضاء، ويلتحم بها سيكون مخصصاً لأعمال الصيانة والتزود بالوقود.
كما تضم محطة الفضاء الصينية "تيانقونغ" أنظمة دعم للحياة وأماكن للمعيشة، فضلاً عن مصادر طاقة ودفع خاصة بها.
ولا تنتهي طموحات الصين عند هذا الحد، بل ترغب الصين خلال سنوات قليلة من الآن في الحصول على عينات من الكويكبات القريبة من الأرض.

نيل أرمسترونغ: هذه خطوة صغيرة لرجل.. وقفزة عملاقة للبشرية

أما عن الولايات المتحدة، فمنذ مقولة رائد الفضاء الأميركي "نيل أرمسترونغ" الشهيرة: «هذه خطوة صغيرة لرجل.. وقفزة عملاقة للبشرية»، لم يعد الأميركيون إلى القمر، وفضلوا اكتشاف عوالم وكواكب أخرى.
ولكن خلال الآونة الأخيرة، أعلنت وكالة "ناسا" الفضائية اعتزامها العودة إلى القمر بإرسال رواد فضاء من الولايات المتحدة ودول أخرى اعتباراً من عام 2025 والأعوام اللاحقة، وقد جهّزت بالفعل صاروخها العملاق الجديد "إس إل إس" في مركز كينيدي للفضاء لهذه المهمة.

ونذهب إلى الهند، ففي 23 أغسطس الماضي، نجح البرنامج الفضائي الهندي بإطلاق "شاندرايان 3″، وهي أول مركبة غير مأهولة تتمكن من الهبوط على سطح القطب الجنوبي للقمر، وترغب الهند في أن يصبح لها محطة فضائية خاصة بها بحلول عام 2030.

ومن نجاح هندي فريد إلى فشل روسي، فبينما يعتبر العالم الروس، رواد الفضاء الأوائل، توجهت أولوياتهم نحو الأرض وخارطتها الجيوسياسية على حساب المهمات الاستكشافية في الفضاء.
وقبل أيام فقط من الإنجاز الهندي، كانت مركبة "لونا 25" الروسية تتحطم في نفس تلك البقعة المعتمة من القمر.

ففي 19 أغسطس الماضي، وبعد مناورة مدارية فاشلة، تحطمت مركبة "لونا 25" عند محاولة الهبوط على سطح القمر، وكانت تلك أول مهمة روسية إلى القمر منذ عام 1976.

اليابان بدورها أطلقت صاروخاً يحمل مركبة لاستكشاف القمر على أمل أن تصبح خامس دولة تهبط على القمر، بعد الهند.
وتسعى اليابان إلى وضع مركبة الفضاء التي يطلق عليها اسم (مون سنايبر) "قناص القمر"، في نطاق 100 متر من الموقع المستهدف على سطح القمر.

وبعد الهبوط، ستحاول المركبة تحليل تكوين الصخور قرب موقع الهبوط بحثاً عن أدلة حول أصل القمر. ولا تحمل المركبة الفضائية أي مسبار قمري.

محطة عبور نحو الفضاء
وأشارت تقارير إلى أن الهدف النهائي للمهام القمرية، هو إنشاء قاعدة حيث يمكن لرواد الفضاء العيش والعمل فيها.
وفيما سنشهد بدء أطول رحلات البشرية إلى الفضاء، فبالتالي، سيجري تحويل القمر كمحطة عبور وموقع استيطاني للرحلات الذاهبة إلى المريخ أولاً، ليتحول لاحقاً إلى منصة إطلاق للرحلات المسافرة بين النجوم.
ما يعني أن القمر يمكن أن يصبح يوماً ما محطة للتزود بالوقود للصواريخ ونقطة انطلاق لاستكشاف الفضاء بشكل أعمق.

توصلت أبحاث في السنوات الأخيرة إلى وجود كميات هائلة من الجليد المائي في الحفر المظلمة الواقعة في القطب الجنوبي للقمر، ويعتقد العلماء أن هذا الجليد هو مصدر محتمل للأوكسجين، كما يمكن استخدامه كوقود ومياه صالحة للشرب، وهذا وراء السعي نحو بلوغ القطب الجنوبي للقمر.
وجعلت هذه الاستكشافات وكالات الفضاء العالمية تعتبر قطب القمر الجنوبي مفتاحًا رئيسيًا لبناء مستعمرات بشرية على سطح القمر، ومحطة انطلاق لإرسال بعثات إلى المريخ.

ثروات القمر
من يمتلك الفضاء يمتلك المستقبل، لما يزخر به الفضاء من ثروات واسعة. ففي الوقت الذي يتزايد فيه عدد السكان على الأرض وتتناقص فيه موارد الطاقة في ظل الحروب والأزمات المشتعلة على كوكبنا، سيكون بالتأكيد على رأس أهداف هذه المهام القمرية إيجاد حلول لأزمة الموارد.
ورغم أن التضاريس على سطح القمر تبدو قاحلة إلى حد ما، إلا أنها تحتوي على معادن، بما في ذلك العناصر الأرضية النادرة، ومعادن مثل الحديد والتيتانيوم - والهيليوم أيضًا، والذي يستخدم في كل شيء بدءًا من الموصلات إلى المعدات الطبية.

وبينما يعتبر غاز الهيليوم 3 نادراً للغاية على الأرض، لكنه متوفر بكثرة على سطح القمر. فيما يمكن استخدام هذا الغاز في مفاعلات الاندماج النووي المتقدمة وكذلك في مجال الصحة.
ومع دخول العالم بأسره خضم أزمة طاقة حادة، من المأمول استخدام بعض العناصر الموجودة على القمر كمورد صناعي ونوع من أنواع الوقود.

المستوطنون الأوائل للقمر

في الوقت الحالي، من المرجح أن يظهر مصطلح "المستوطنون الأوائل" للقمر، وقد يكون محصوراً بين الولايات المتحدة أو الصين، وهو ما من شأنه أن يجلب ساحة جديدة للتنافس بينهما وصولاً إلى علاقة متوترة بالفضاء.
ومن المرجح أن يضعوا المستوطنين الأوائل المعايير هناك - فالقواعد التي يضعها من يصل إلى هناك أولاً قد ينتهي بها الأمر إلى أن تصبح قواعد تظل ثابتة بمرور الوقت.

جدير بالذكر، أنه بعد خطوة أرمسترونغ الشهيرة على سطح القمر يوم 20 يوليو 1969، هبط 12 رائد فضاء آخرون على سطح القمر، حيث كانت هناك 6 حالات هبوط مأهول نفذتها وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" بين عامي 1969 و1976، بالإضافة إلى العديد من حالات الهبوط غير المأهول، والتي بفضلها جميعاً اكتشفنا قمرنا الفريد وخصائصه.
ومن المتوقع أن تتم أكثر من 100 مهمة قمرية، سواء من قبل الشركات الخاصة أو الحكومات، بحلول عام 2030، وفقاً لما ذكرته وكالة الفضاء الأوروبية.